رقية ابراهيم صالح العقيلي

تدخل رقية مثل هبة ريح. توقفت مترددة للحظة، ثم تقدمت مرة أخرى وبدا انها اتخذت قرارها. تقف كل العائلة وراءها وبقيت صامتة ومهتمة بكل كلمة تقولها وبكل حركة تقوم بها: الأبناء، البنات، الأحفاد، الأبناء وأزواج وزوجات اخوتها، أبناء العمومة والأقارب. بالنسبة لها، لا توجد اسرار داخل مركز السموع الثقافي.

“هذا بيت والدي وقبله كان بيت جدي. وقد ورثت عائلتي وعمي، أي شقيق أبي هذا البيت من جدي”. تقول رقية وهي تتحرك بخفة وسرعة على الرغم من عمرها الكبير. وهنا وبين أحجار الحوش حيث ولدت وترعرعت كان الجميع يستمع لها مستمتعا بحديثها.

“هذا البيت قديم جداً، بناه جدي قطعة قطعة، كل غرفة فيه لها معنى خاص. وكل ما تراه اليوم، كل شيء، ولد من زواج تلو الآخر. في البداية كانت العائلة تعيش في الكهوف، تحت مستوى الأرض، لأنهم اعتبروها أماكن آمنة. ثم، شيئًا فشيئًا، كبرت العائلة وتم بناء غرف جديدة، وفي فترة ما كنا حوالي 20 شخصا نعيش هنا. وحينها كنا عائلة ثرية وكان لدينا ماشية، كالأبقار والإبل.” ثم توقفت رقية للحظة وتنفست. أخذت تنظر إلى المدخل الرئيسي ثم ابتسمت وقالت: “انظر، هناك بابان أصبحا باباً واحداً، كان أحدهما مخصص لعبور الأفراد والباب الأكبر كان مخصصاً لعبور الإبل”!

وتخرج ضحكة من الجمهور، لم يتوقفوا أبدا عن الاستماع لها والاستمتاع بها. فقد كانت كلمات وإشارات رقية تُعيد رسم خريطة المكان، أي الحوش المرمم الذي أصبح اليوم مركزًا ثقافيًا، وكذلك ما أصبحت عليه اليوم الغرفة ذات المستويين والتي ستستخدم لورش عمل رواية القصص للأطفال حيث كانت في السابق عبارة عن حظيرة للماشية: كان وجود الحيوانات في الطابق السفلي من أجل ابقاء الساكنين في الطابق العلوي دافئين خلال الليالي الباردة في السموع.

“مع وجود العمال اليوميين والخدم، كان يصل عددنا الى حوالي 30 شخصًا، وذلك للقيام بالحرث والبذر وزراعة النباتات كوسيلة لكسب العيش. ونادراً ما اشترى الناس أي شيء كانوا يقومون بذلك فقط عندما لم يكن بإمكانهم الحصول على ما يشترونه من الأرض. لقد عشنا دائمًا هنا عندما كان والدي وعمي على قيد الحياة، كم كان ذلك جميلاً. اما اليوم فكل ما تحمله هذه الجدران هو الكثير من الذكريات”.

وتظهر لمعة في عيون رقية خلف نظارتها حيث حاولت ان تعدل حجابها لإخفاء لمحة حزن سرعان ما ذهبت، وابتسمت رقية من جديد ابتسامة مشرقة وقالت: “أختي وأنا تزوجت على هذا السطح” وهي تشير إلى المكان الذي يوجد فيه اليوم غرفتان جميلتان واحدة خصصت لنوم المسافرين والأخرى لعروض الموسيقى والرقص.

“أنا سعيد جدًا بهذا الترميم. شيئًا فشيئًا وعلى مر السنين، غادرنا هذا المكان، متتبعين خطى أبنائنا وبناتنا نحو حياة جديدة، في منازل جديدة والى مدن جديدة. كان هذا المنزل على وشك ان يدمر ويهدم وينسى. لكنني اليوم أرى انه قد عادت الحياة اليه من جديد كما عادت للمدينة بأكملها، “إنه شيء رائع” تقول رقية وهي تنظر حولها برضى.

“سيكون هذا منزل الجميع! وسترجع الموسيقى والحياة والضحكات لتكون جزءًا منه مرة أخرى. إنها هويتنا الفلسطينية: المنازل القديمة، غرفنا، هذا كله تراثنا، هذا نحن، الفلسطينيون. هذه المنازل هي أصولنا. لقد بدأنا من هنا، حيث لا يوجد في لا نهر ولا بحر. لكن هذه المدينة هي رمز فلسطين، وإذا كان هناك شخص ما يريد ان يتعرف على فلسطين، فعليه ان يزور السموع ويرى منازلها التقليدية. “

وفي نفس هذا اليوم، قدم أحد إخوة رقية هدية. قنينة عليها صورة مؤسس العائلة وبعض الرمال من المملكة العربية السعودية. لقد قدمت العائلة منذ سنوات عدة من هناك، وعاد بعضهم إلى هناك بعد عدة أجيال للعيش والعمل في المملكة العربية السعودية. ولكن هذه الزجاجة تمثل الرابط والقصة والرسالة التي تنتقل من جيل إلى آخر. وهكذا ستعود الحياة الى هذا المنزل من جديد حتى يبدأ بتلقي قصص جديدة.

العودة إلى الأعلى