أبو عقيل

“الموسيقى في كل مكان؛ عندما يغني العصفور وعندما أنقر الطاولة بأصابعي، المشاعر والسياسة، كل شيء هو موسيقى. فمجموعة من الأصوات والنغمات والأدوات يمكن أن تحكي قصتنا بشكل متناغم، هذه هي الموسيقى. في العالم الذي لا توجد فيه لغة مشتركة، حيث تكون الاختلافات هي السبب في خلق الصراعات، تكون الموسيقى وقتها هي اللغة عالمية “.

وبينما كان أبو عقيل يتحدث الينا، كانت هنالك مجموعة من الأطفال جالسة تستمع اليه. كنا في غرفة المعيشة في منزله الجميل الواقع على قمة تل في مهب الريح ويطل على الوادي حيث تقع بلدة السموع. وهؤلاء الأطفال هم أطفال المجتمع القريب منه والذين تعرفوا، وعلى مر السنين، على الموسيقى بفضله.

“لقد شعرت دائما بأنني محظوظ. ولهذا السبب، وبعد دراستي للموسيقى خلال دورة نظمتها الحكومة، بدأت في تعليم الشباب كيفية العزف على الآلات الموسيقية والغناء. وحسب الاتفاق المتبادل مع المدرسة، قررنا ان نطور هذا النشاط ليصبح نشاطاً منتظماً بعد انتهاء الحصص المدرسية وذلك من أجل إشراك المزيد اكبر عدد ممكن من الطلاب. لكننا نعيش في منطقة فقيرة للغاية بسبب الوضع السياسي وقلة فرص العمل والأرض الجافة جدا، ولم نكن نعرف كيف نقوم بذلك لكنني لم استسلم، وقررت في النهاية ان استخدم منزلي ليكون متاحاً امام الأطفال حتى يتعلموا الموسيقى. ولذلك اقول إنني محظوظ، فلديّ منزل كبير وأسرة مرحبة، كما ان الأدوات الموسيقية هي ملكي. لم أكن لأهتم بشيء؛ الشيء المهم عندي كان دائماً جعل الأطفال يتعلمون الموسيقى”.

ثم بدأ يضعف الانتباه من حول أبو عقيل، فالأطفال يقضمون ويتحدثون ويبتسمون، ولا يمكنهم الانتظار حتى يبدأوا بالأداء. ومثل أي موسيقار جيد ومثل أي معلم يقظ، حدد أبو عقيل الإيقاع الذي يريد من الأطفال ان يتبعوه، ثم طلب منهم التحلي بالصبر دون أن يقول أي كلمة، فقط عبّر بنظرة صارمة وابتسامة عما يجب أن يفعلوه حتى ظهرت آلة العزف الإلكترونية في الغرفة.

“بالنسبة للفلسطينيين، تشكل الموسيقى علامة هوية ثقافية: ففي كل اللحظات الرئيسية في الاحتفالات العائلية والرسمية إلى المناسبات السياسية والمقاومة، تحكم الموسيقى كل جانب من جوانب حياتنا الاجتماعية والثقافية. وهذا هو السبب الذي أرى أنه من المهم للغاية جعل الشباب يتعلمونها، ويتعلمون الغناء والعزف على الآلات المختلفة. قدمت لهم شغفي – فأنا أيضًا ملحن – ومنزلي ووقتي وأدواتي. لكن هذا لم يكن حلاً ثابتا، فقد كنا بحاجة إلى مكان لتطوير دورات تدريبية بشكل مستمر. واليوم توفر أخيرا هذا المكان، المركز الثقافي الجديد في السموع، حيث ستكون هناك غرفة مخصصة للموسيقى ومجهزة بأدوات جديدة وتقليدية. ما زلت سأقوم بإعطاء بعض الحصص، فهذا يشعرني بالسعادة لكن في النهاية سيكون لهؤلاء الأطفال مكان لدراسة الموسيقى وتأليفها والعزف على أدواتها والغناء. وانا سعيد من اجلهم”.

وبإيماءة برأسه، يخبر أبو عقيل الأطفال المتجمعين في غرفة المعيشة أن الوقت قد حان. فنهض أول ثلاثة منهم وهم من أعمار مختلفة، ارتدوا الملابس التقليدية ثم بدءوا بالغناء والرقص، وكانوا يحسبون الايقاع بحركات من ايديهم. ثم، حان دور ليزا، ابنة أبو عقيل لأن تؤدي فقرتها؛ فبدأت تعزف منفردة على آلة الموسيقى الالكترونية، لكنها كانت تشعر بالخجل من الجالسين في الغرفة. وحين لاحظ أن أبو عقيل ذلك، قام مباشرة من مكانه وجلس إلى جانبها وبدأ يعزف معها بينما بدأ الآخرون في الغناء.

ولم ينتهي الأمر عند هذا الأمر، فمن بين تصفيق من هنا وضحك الصغار من هناك، تظهر والدة أبو عقيل. وكما هو الحال في أفضل التقاليد الفلسطينية، تبدأ الغناء بأغنية تقليدية بصوتها العالي النغمة بحسب السلالم الموسيقية. كان حفلاً لم يرد أحداً من الحاضرين أن ينتهي.

“احمل شهادة في تخصص الأشعة من جامعة القدس وطبعاً ستكون هذه وظيفتي، ولكن الموسيقى – خصوصاً وانني نشأت في هذا المنزل ومع وجود والدي – كانت هي دائماً شغفي. بالنسبة لي، سيكون وجود المركز الثقافي فرصة عظيمة”، هذا ما قالته ليزا لنا وهي تبتسم بعد ان تغلبت على خجلها. ثم جاء دور وطن، وهو صبي في العاشرة من عمره، ولم يستطع ان يجلس قط ساكناً ولا ان يصمت للحظة واحدة، حتى قبل أداءه الرقص التقليدي مع أبناء عمومته. وعرّف وطن عن نفسه قائلاً: عمري 10 سنوات، الغناء والرقص شيئان رائعان! لقد عزفت على الآلات الموسيقية دوماً وذلك بفضل العم أبو عقيل، وأريد أن أفعل ذلك إلى الأبد.” يقول ووجهه مضيء تحت كوم شعره المتمرّد.

“بالنسبة لنا، فإن خبر افتتاح المركز الثقافي كان عظيماً”، يقول قسام الفتى الذي كان يرتدي قميصًا مفتوح الصدر حيث مرسوم عليه اسم برشلونة، لكنه ومع ذلك كانت تبدو نظراته طفولية. وأكمل: “لقد حاولنا أنا وزملائي عدة مرات إنشاء مركز موسيقي للشباب في المدرسة، لكن لم يتوفر لا الدعم المالي ولا المكان المناسب. أما الآن، وأخيرًا أصبح المكان متوفراً. وايضاً لم يكن هنالك أماكن نلتقي فيها انا والأصدقاء لنلعب سوياً أو نستمع إلى الموسيقى، لذلك أنا أتطلع إلى الاستمتاع بهذا المركز”.

في هذه الأثناء، كان أبو عقيل يجلس مبتسماً وهو عاقد يديه خلف ظهره، يستمع ويبتسم لأنه وكما قال، كل هذا الحماس هو عبارة عن موسيقى: موسيقى المستقبل، والعيش السليم والهادئ الذي لا يكون فقط في العيش في خضم المشاكل بل كذلك الذي يتمتع بحرية الفن والابداع.

العودة إلى الأعلى